الخط العَرَبِي هو الفن الجميل للكتابة العربية التي ساعدت بنيتها وما تتمتع به من مرونة وطواعية وقابلية للمد والرجع والاستدارة والتزوية والتشابك والتداخل والتركيب، على ارتقاء الخط العربي إلى فن جميل يتميز بقدرته على مسايرة التطورات والخامات. فتشكلت علاقة وثيقة بين كل نوع من أنواعه والمواد التي يكتب بها أو عليها، فرأيناه لينًا ينساب برشاقة وغنائية، ورأيناه صلبًا متزنًا يشغل حيزه بجلال يمتد إلى ما حوله، ورأينا الصلابة واللين يتبادلان ويتناغمان فيه. وهو في كل أحواله يشدّ الناظر ويمتعه بجمالياته الخاصة وتجريديته المتميزة التي عرفها بشكل مبكر وراقٍ، مما جعل له مكانة خاصة بين الفنون التشكيلية.
والخط العربي يعتمد فنيًا وجماليًا على قواعد خاصة تنطلق من التناسب بين الخط والنقطة والدائرة، وتُستخدم في أدائه فنيًا العناصر نفسها التي نراها في الفنون التشكيلية الأخرى، كالخط والكتلة، ليس بمعناها المتحرك ماديًا فحسب بل وبمعناها الجمالي الذي ينتج حركة ذاتية تجعل الخط يتهادى في رونق جماليٍ مستقلٍ عن مضامينه ومرتبطٍ معها في آن واحد.
ومن خلال نمطيْه الأساسيين المنحني الطياش والهندسي اللذين ينفرد كل منهما بجماليات خاصة، مع الزخارف المرافقة لهما، يستطيع الفنان إبداع نوع من الإيقاع نتيجة التضاد بين الأجزاء والألوان، وما يحققه ذلك من إحساس بصري بالنعومة والخشونة والتكامل الفني الناتج عن التوزيع الإيقاعي، مع تحقيق الوحدة في العمل الفني ككل. ومن خصائصه أيضًا مخالفة الطبيعة، والتجريد والاستطراد، ممّا يمنح الفنان الحرية اللازمة للتشكيل. وهذا ما ساعد الفنانين العرب والمسلمين على استخدامه في تشكيل تحفهم على الخامات المتنوعة كالمعادن والخزف والخشب والرخام والجص والزجاج والنسيج والورق بأنواعه، بالإضافة إلى الروائع المعمارية، فكان الخط العربي قاسمًا مشتركًا لكل الفنون العربية الإسلامية التي أعارها طابَعهُ الجمالي المنطلق من التناسب بين الخط والنقطة والدائرة.
صفحة من مخطوطة من القرآن الكريم مكتوبة بالخط الكوفي عام 287هـ ، 900م. وتعتبر نسخة فريدة لأنها كُتبت على ورق أزرق وكان الشائع حينئذ الكتابة على ورق مصبوغ باللون الأصفر.
لم يتطور الخط العربي دفعة واحدة، مثله في ذلك مثل اللغة والكتابة وغيره من الفنون، بل نما ونضج مع الزمن. ففي بداياته، أدى دورًا وظيفيًا فقط، ولم نعرف له عند مجيء الإسلام أكثر من نوعين: أولهما البسط، وهو خط يميل إلى القساوة وتغلب عليه التزوية، استُخدم في النقوش وفي الوثائق المهمة التي كانت تكتب على الرق، وفي المصاحف بصورة خاصة؛ وثانيهما التقوير وهو أكثر ليونة واستدارة، استُخدم في المعاملات اليومية، والوثائق والمراسلات الخاصة التي تتطلب السرعة، ثم دخل الخط العربي مرحلة تطور وتطوير متسارعين وفي اتجاهين: استكمال مقوماته الوظيفية الكتابية من جهة، وتجويده والنهوض به ليقوم بدور فني جمالي من جهة ثانية. وقد بدأت النهضة الفنية للخط العربي مع بناء الكوفة ثم اتخاذها مقرًا للخلافة أيام الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
الخط الكوفي. اعتمد تطور الخط العربي في بداياته الكوفية على خط البسط بشكل أساسي، فتطور فيها تطورًا كبيرًا، ربما كان من أسبابه التقاؤه مع ما ألِفَهُ مَن حلّ بالكوفة من قبائل اليمن من تربيع في الخط المسند، والبراعة التي اشتهر بها أهل الحيرة والأنبار الذين هاجر بقيتهم إليها. وعلى الرغم من وجود نماذج سبقت إنشاء الكوفة تحمل سمات الخط الذي أُطلق عليه اسم الكوفي، فإن هذه التسمية سادت وأصبحت تُطلق على كل الخطوط التي تميل إلى التربيع والهندسة أينما كتبت، وأيًا كانت درجة تطورها أو اختلافها عن الخطوط الكوفية الأولى.
غير أن الكوفة عرفت نوعين آخرين إلى جانب الخط القاسي: نوع مخفف لين هو خط التحرير، ونوع يمكن اعتباره جمعًا بين النوعين السابقين هو خط المصاحف الذي اهتمت المصادر التاريخية بتناوله، وكان معتمدًا في كتابة المصاحف الكبرى التي تُوقف على المساجد. وكان من أبرز كُتَّابه الأوائل مالك بن دينار الوراق وخشنام البصري. أما أقدم فنان متميز في الخطوط الكوفية تذكره المصادر، فهو خالد بن أبي الهياج الذي اشتهر زمن خلافة علي بن أبي طالب، وحتى خلافة عمر بن عبدالعزيز. وقد كتب عددًا من المصاحف وكُتُبِ الأخبار والأشعار. وكان أول من خطَّ كتابة تزيينية على المساجد، فلقد خطّ على جدار القبلة في المسجد النبوي الشريف أربعًا وعشرين سورة من القرآن الكريم.
واستمر الخط الكوفي في التطور والانتشار، فأسهمت كل الحواضر العربية والإسلامية في الشرق الإسلامي ومغربه في الإضافة إليه، والارتقاء بجمالياته لقرون طويلة، فتعددت أنواعه وأشكاله التزيينية والزخرفية حتى جاوزت السبعين، منها الكوفي البسيط والمورّق والمضفَّر والمزهَّر والمربَّع والتذكاري والقيرواني والأندلسي والفاطمي والمملوكي والسلجوقي والنيسابوري، إلى آخر تلك الأنواع والتفرعات التي تتمتع بمميزات تشكيلية جمالية عالية ساعدت على تطورها القيم الجمالية الهيكلية الكامنة في الخط العربي وحروفه، بالإضافة إلى الطبيعة الفنية الزخرفية في الخط الكوفي، والتي تتيح للخطاط المبدع درجة عالية من الحرية في الابتكار والإبداع. ولم يحدّ من نموّ الخطوط الكوفية واطراد تطورها إلى جانب الخطوط اللينة إلا سيطرة العثمانيين على البلدان العربية، ونقلهم لخيرة مبدعيها إلى الآستانة، وإهمالهم للخطوط الكوفية مع تصاعد اهتمامهم بالخطوط الليِّنة، مما وضع الخطوط الكوفية في الظل لمئات من السنين.
كتابة أدعية مأثورة. نسخة نادرة ومشكولة كتبها ياقوت المستعصمي المتوفى في بغداد سنة 698هـ، 1298م، على كاغد عربي سميك أصفر بخط الثلث المتقن.
مصحف شريف. يعود إلى القرن الثامن الهجري، كُتب بخط النسخ في بيهار بالهند وتظهر بعض تجاويف الحروف في نهاية الكلمات كأنها على شكل سيوف.
مصحف شريف. كتبت الآيات بخط النَّسْخ، أما الشرح فبخط التعليق، وهي مزينة بألوان متعددة ومزخرفة برسوم نباتية وأشكال جمالية، تعود إلى القرن الثاني عشر للهجرة.
الخط الموزون. تعود أصول الخطوط الموزونة إلى خط التقوير الذي كانت بداية ارتقائه الفني في الشام بعد تعريب الدواوين في عهد الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان، واختراع نوع من الورق عرف بالقرطاس الشامي. وتُنسب النقلة الأولى في هذا الارتقاء إلى قطبة المحرِّر، وهو ـ في الأغلب ـ أول من أطلق عليه لقب محرِّر. ابتدع قطبة استخدام قلم الجليل في الكتابة على قطع الطومار فصار يُسمى قلم الطومار أيضًا، واشتق منه ثلاثة أقلام أصغر منه حدد عروضها بالنسبة إليه، ليكتب بها على قطوعٍ مختلفة من القرطاس تتفق مع أهميتها الإدارية.
وفي أوائل العصر العباسي، طوّر كل من الضحاك بن عجلان الشامي ثم إسحق بن حماد ما بدأه قطبة، فبلغ عدد الأقلام اثني عشر قلمًا، وأصبحت هناك مدرسة للإبداع الخطي انتهت إلى إبراهيم السجزي (أو الشجري) الذي استحدث قلمين أصغر من الطومار أطلق عليهما الثلثين والثلث (بالنسبة إلى الطومار)، وإلى أخيه الكاتب الشاعر يوسف لقوة الذي استخرج قلمًا من النصف الثقيل عُرف بقلم التوقيع طوّره الفضل بن سهل فيما بعد، وسماه القلم الرياسي، وهو يتفرع إلى بضعة أقلام مثل نصف الرياسي والمحقَّق والمنثور والوشي والرقاع والمكاتبات والنرجس والبياض.
أما النقلة الأهم بين نُقْلة قطبة المحرر ونُقْلة ابن مقلة، فقد تمَّت على يد الأحْول المحرر وكان تلميذًا مبدعًا لإبراهيم السجزي، قام بترتيب الأقلام الثقال بدءًا من الطومار، ثم الثلثين والسجلات، فالعهود والمؤامرات ثم الأمانات والديباج، فالمدمج والمرصّع، ثم قلم النسّاخ. وينسب إليه اختراع خفيف النصف وخفيف الثلث، والمسلسل، وغبار الحلية، وخط المؤامرات، وخط القصص والحوائجي. وقد استخدمت المصادر التاريخية كلمة خط بدءًا من بعض الأنواع التي ابتكرها بدلاً من كلمة قلم التي كانت سائدة للدلالة على تسميات لقياسات مختلفة من الأقلام تتناسب استخداماتها وقطوع الورق. وتنسب إلى قلم الطومار الذي حدّد عرضه بما يساوي أربعًا وعشرين شعرة من ذيل الحصان التركي، فكان عرض قلم الثلثين 16 شعرة والثلث 8 شعرات، وهكذا. ولم تكن أنواعًا بالمعنى المعروف ولكنهم استخرجوا منها الثقيل والخفيف، وأكسبوها من خلال ذائقتهم الفنية وتراكم جهودهم خصائص مختلفة ميّزت الخطوط الأصلية الموزونة التي برع فيها عدد من الخطاطين الأفذاذ، كان من أبرزهم طبطب المحرر رأس المدرسة المصرية، وإسحاق بن إبراهيم البربري أستاذ ابن مقلة ومؤلف تحفة الوامق أول كتاب أمكن تسجيله في الخط العربي.
الخط المنسوب. كانت الخطوط الموزونة قد وصلت إلى درجة من التطور، فأصبح لها نسب قياسية خاصة، وبلغ عدد أقلامها أربعة وعشرين قلمًا عندما ظهر الخطاطان العبقريان الوزير أبو علي محمد بن مُقْلة ثم أخوه أبوعبدالله الحسن بن مقلة اللذان نقلا الخط العربي نقلة فنية نوعية. لم تتفق المصادر التاريخية حول من كان له الدور الأكبر فيها. وقد كانا على درجة عالية من الدراية والتعمق والبراعة والتجويد، فتوصل أحدهما ـ أو كلاهما ـ في بدايات القرن الرابع الهجري إلى تأليف ستة أنواع من الخطوط هي: الثلث والريحان والتوقيع والمحقَّق والبديع والرقاع. وهنْدس أحدهما مقاييسها وأبعادها، ووضع معايير لضبطها والوصول بها إلى صيغ جمالية محكمة، معتمدًا في ذلك على العلاقة بين النقطة والدائرة والخط. فجعل حرف الألف الذي حدد طوله بعدد من النقاط قطرًا لدائرة ونسب إليه الحروف جميعًا، فكانت هذه انطلاقة الخط المنسوب الذي أبدع فيه عدد من الخطاطين طوال قرن من الزمن ليصل إلى محمد بن السمسماني ومحمد بن أسد الكاتب البزاز البغدادي الذي نقل كتابًا عن ابن مقلة، وكان هذان أستاذين تتلمذ عليهما الخطاط البغدادي المبدع أبو الحسن علي بن هلال، ابن البواب.
درس ابن البواب خطوط ابن مقلة دراسةً معمقة مدققة استطاع بعدها أن يطور أسلوبه والقواعد التي وضعها للخط المنسوب منتقلاً به إلى مرحلة أكثر رقيًا وجمالاً عبر اصطفائه لأساليب تجمعها خصائص جمالية مشتركة؛ نقّحها وحوّلها إلى طرق سار عليها فن الخط العربي قرونًا ثلاثة تالية، لتنتهي إلى زينب بنت أحمد الإبري البغدادي الملقبة بشُهدة، التي يقال: إن ياقوت المستعصمي تتلمذ عليها، ثم الموسيقي الشهير الخطاط صفي الدين عبدالمؤمن الأرموي أستاذ أبي المجد جمال الدين ياقوت بن عبد الله المستعصمي.
دقق ياقوت المستعصمي خطوط ابن مقلة، وخطوط ابن البواب بشكل خاص، فوجد أن القواعد التي أوصلا الخط المنسوب إليها متينة ومتماسكة من حيث مقاييسها وأبعادها ومعاييرها الجمالية الهيكلية، ولكنها تحتاج إلى أسلوب أرقى في الأداء يضيف إلى جمال هيكلها ونسبها جمالاً في تفاصيل حروفها وتناغم أجزائها. فركز جهوده في هذا الاتجاه، وتوصل إلى اختراع طريقة غير مسبوقة في بري القلم؛ فجعل شحمه أقل رهافة، وزاد من تحريف قَطّته مما شكل نقلة جمالية كبرى في تجويد الأقلام الستة المنسوبة جميعًا، سرعان ما أعطت ثمارها فانتشرت في مختلف المراكز الثقافية المنافسة لبغداد التي فقدت ثقلها في توجيه مسيرة الخط العربي بعد سقوط الدولة العباسية ووفاة ياقوت.
كان خط النسخ قد شهد تطورًا كبيرًا في الشام منذ أواخر القرن الخامس الهجري، وحظي بنصيب وافر من التجويد مع خط الطومار ومشتقاته. ونافست مصر العراق في الاهتمام بالخط العربي منذ العصر الفاطمي؛ فطورت أنواعًا جديدة من الكوفي، وواكبت مسيرة الخط المنسوب فيها مسيرته في العراق، وسابقتها في تجويده، وتطور تدريسه فيها حتى أصبح له معلمون متخصصون متفرغون لتعليمه، يعملون بناء على أسس محددة يمكن أن نرى مثالاً لها في كتاب العناية الربانية في الطريقة الشعبانية لزين الدين شعبان بن محمد الآثاري. وقد أدى هذا إلى تطور كبير في خطي الثلث والثلثين. وفي الوقت نفسه، ظهر وتطور في فارس خط التعليق بعد أن حلَّت الحروف العربية محل الحروف الفهلوية في كتابة اللغة الفارسية. وربما كان هذا الخط تطورًا عن خطي التوقيع والرقاع تعود بداياته الأولى إلى أوائل القرن الرابع الهجري. وقد اكتسب خصائصه المعروفة في القرن السابع الهجري، ليقوم خطاط مبدع في القرن التاسع الهجري هو مير علي التبريزي بابتداع وتجويد خط متطور عنه سمي نسخ التعليق أو نستعليق، يمتاز بالرقة والرشاقة والتناغم الجميل بين الرقة والغلظ في كتابة حروفه ومدّاته، ووضع له نسبًا خاصة. وقد اشتهر باسما
الخط الفارسي
المدرسة العثمانية. يمكن القول إن تطور خط النسخ في الشام، والثلث والثلثين في مصر شكّلا منهلاً نهل منه الخطاطون الأتراك وأساسًا اعتمدوا عليه ليحدثوا نقلة مهمة في تجويد بعض أنواع الخط المنسوب. وقد أدى استقدام السلاطين لخيرة خطاطي العراق والشام ومصر، ضمن من استقدموهم من فنانين وصنّاع إلى الآستانة، دورًا كبيرًا في النهضة الخطية التي شهدتها الدولة العثمانية. وكان الأتراك يستخدمون خط التعليق الفارسي في كتابة لغتهم التي كانت قد تحولت أيضًا إلى الحروف العربية، بالإضافة إلى الخطوط المنسوبة التي كانت لها استخدامات مختلفة. وقد برز في أواخر القرن التاسع خطاطان اتبعا طريقة عبدالله الصيرفي البغدادي كان لهما دور كبير في تطور تجويد الخط العربي. أولهما الشيخ حمدالله الأماسي الذي جمع خطوط ياقوت المحفوظة في الخزانة العثمانية، فدرسها، وانتقى من حروفها أجمل الأشكال والأساليب، لتكون هاديًا ودليلاً له في تطويره للأداء الجمالي للخطوط المنسوبة؛ وثانيهما الخطاط أحمد القره حصاري الذي برع في التراكيب والتشكيلات الخطية. وقد أدى التنافس بينهما إلى توسيع دائرة المجودين لتنتهي في أواخر القرن الحادي عشر الهجري إلى الحافظ عثمان بن علي الخطاط المجود الشهير صاحب المصاحف الذي استقرت الأقلام الستة بطريقته. ثم أتى الخطاط المبدع مصطفى راقم في أواخر القرن الثاني عشر الهجري ليضع اللمسات الأخيرة على طريقة تجويد جليّ الثلث التي لا تزال متبعة حتى الآن. وقام الخطاط سامي أفندي بتطوير الأرقام وعلامات التشكيل وإشارات الحروف المهملة حتى بلغت شكلها المعروف اليوم. وقد تسابق الخطاطون في تراكيب خط الثلث وجليّه مما أدى إلى تطور جمالي كبير فيها كان من نتيجته إجراء بعض التعديلات في مقاييس بعض الحروف بما يخدم التشكيل الخطي، وإحداث علاقات من التناغم بين غلظ القلم ورقة التشكيل وإشارات الحروف المهملة. وانتهى تجويد الثلث والنسخ والرقاع إلى فرعين على درجة عالية من الجمال يقف على رأس أولهما الخطاط قاضي العسكر مصطفى عزت، ويقف على رأس الثاني الخطاط محمد شوقي.
من ناحية أخرى، كان خط نسخ التعليق الفارسي يتطور بشكل تدريجي، عندما أتى الخطاط الشهير مير عماد الحسني في أواخر القرن العاشر الهجري فدرس هذا الخط، وارتقى به إلى درجة عالية من التناسق والجمال والرقة. وقام تلميذه درويش عبدي البخاري بنقل طريقته إلى إسطنبول، حيث أقبل الخطاطون على استخدامها في كتابة القطع الخطية، وقام محمد أسعد اليساري باشتقاق طريقة جديدة منه أقبل عليها كثير من الخطاطين، وخصوصًا جليّها الذي طوره الخطاط مصطفى عزت أفندي ابن اليساري، إلا أن خط التعليق التركي لم يرقَ إلى جماليات الفارسي، فلقد أهمل الأتراك الشكل التركيبي منه، وقللوا من مرونته ورشاقته.
وقد أضافت المدرسة العثمانية بعض الإضافات النوعية، فظهر الخط الديواني الذي تعود جذوره إلى التوقيع والرقاع والتعليق، وتطور بشكليه العادي والجلي، فوضع أصوله الخطاط محمد منيف في عهد السلطان محمد الثاني، ثم طورها ونشرها الصدر الأعظم شهلا باشا في عهد السلطان أحمد الثالث وجوّدها السلطان مصطفى خان، ثم طورها الخطاط نعيم. وبرع في هذا الخط الخطاط سامي، والحاج أحمد الكامل آخر رئيس للخطاطين في الدولة العثمانية، بالإضافة إلى ممتاز بك الذي وضع في عهد السلطان عبدالمجيد خان قاعدة لخط آخر أضافه العثمانيون، هو خط الرقعة الذي طوره الخطاط محمد عزت أفندي، وهو خط يصلح للاستخدام اليومي وليس للأعمال الفنية. وابتكر الخطاط عارف حكمت خطًا سماه السنبلي، إلا أنه لم ينتشر رغم أنه على درجة لابأس بها من الجمال. وطور الخطاطون العثمانيون تصميم الطغراء التي تعود بداياتها إلى سلاطين المماليك في مصر، واستخدمها السلاطين العثمانيون جميعًا.
كما اهتمت المدرسة العثمانية بتعليم الخط وتنشئة الخطاطين، حتى إن كثيرًا من سلاطينها ووزرائها تعلموه. وقد استفادت هذه المدرسة من التقاليد التي كانت المدرسة المصرية قد أرستها، وأصبح سائدًا نظام منح الشهادة أو الإجازة الذي كان ابن الصايغ قد وضعه. وقد مال الخطاطون، حتى المتميزون منهم، إلى محاكاة خطوط سابقيهم وتقليدها، الأمر الذي يمكن أن يكون أحد أسباب الروح المحافظة التي سادت المدرسة العثمانية بعد المجودين الأعلام. انظر: تركيا.
المدارس العربية الحديثة. ظلّت شجرة الخط في البلدان العربية مثمرة رغم الإهمال والظلال التي حجبت عنها النور بعد تركز الأضواء على الآستانة، فاستمر الخط العربي في العراق لينتقل نقلة نوعية تتميز بالقوة والجمال على يد الخطاط الكبير هاشم محمد البغدادي الذي جود جميع أنواع الخط العربي بخصوصية كانت أساسًا لمدرسة العراق الحديثة تجمع ميزات المدرسة العراقية والمدرسة المصرية والمدرسة التركية.
وفي الشام، انتهى الأمر إلى الخطاط مصطفى السباعي الذي كان هو والخطاط التركي يوسف رسا، وتلميذه ممدوح الشريف أساتذة للخطاط بدوي الديراني الذي جود جميع الخطوط بأسلوب متميز جميل، وطبع خط التعليق بطابعه الخاص كما طور طريقة جميلة من الخط الديواني، بالإضافة إلى إجادته للخط الكوفي، مما جعله رأسًا للنهضة الخطية في الشام. أما في مصر، فقد استمر الخط العربي عبر عدد كبير من الخطاطين حتى كان عهد أسرة محمد علي، حيث اتجهت الأضواء مرة أخرى إلى القاهرة، فبرز الخطاط محمد مؤنس الذي أخذ الخط عن والده، وبرع فيه. وكان صاحب الفضل الأول في النهضة الخطية الحديثة في مصر. وقد درّس عددًا كبيرًا من الخطاطين، ووضع كتاب الميزان المألوف في وضع الكلمات والحروف.
ثم كان هناك عدد من الخطاطين الأفذاذ أمثال محمد جعفر ومصطفى الحريري ومحمد الجمل وعدد كبير من الأساتذة الذين درّسوا في مدرسة تحسين الخطوط الملكية التي أنشأها السلطان فؤاد بعد الانقلاب الكمالي الذي عصف بالحروف العربية في تركيا. وكان من أبرزهم الخطاط التركي عبدالعزيز الرفاعي، والخطاط مصطفى غزلان الذي طور الخط الديواني تطويرًا جماليًا كبيرًا، والأستاذ يوسف أحمد الذي أحيا الخط الكوفي من جديد وقام بتدريسه ونشره، والخطاط محمد حسني الدمشقي الذي برع كثيرًا في التراكيب الخطية التي ابتدع فيها أسلوبًا خاصًا اتبُع من بعده. ويضاف إلى هؤلاء عدد كبير من الخطاطين الأعلام أمثال محمد إبراهيم الذي افتتح في الإسكندرية مدرسة خاصة لتعليم الخط، وأحيا بعض أنواع الخط الكوفي، والأستاذ سيد إبراهيم الذي كان من أوائل المدرسين في مدرسة تحسين الخطوط الملكية وأستاذًا لعدد كبير من الخطاطين والأستاذ محمد عبدالقادر، كبير مفتشي مدارس تحسين الخطوط المنتشرة اليوم في أنحاء مصر.
وفي المغرب العربي، حافظ الخط العربي على بعض سمات الخطوط الأولى. وظهرت أولى أساليبه في القيروان كاشتقاق يحمل سمات جمالية خاصة عالية من خط المصاحف الكوفي، عُرف بالخط القيرواني، ثم تطور عنه خط نُسب إلى المهديّة. وتطور في الأندلس نوعان أساسيان، أحدهما تكثر فيه الزوايا سُميّ بالكوفي الأندلسي؛ والآخر تكثر فيه الانحناءات والاستدارات سُمي بالقرطبي أو الأندلسي، استخدم في نسخ المصاحف والكتب وكان لتعليمه تقاليد خاصة في الأندلس والمغرب. وقد ساد هذا النوع في المغرب العربي كله حتى أواخر حكم الموحدين. ثم ظهر الخط الفاسي ثم السوداني أو التمبكتي (نسبة إلى تمبكتو في مالي)، ويمتاز بكبره وغلظه، والتونسي الذي يعد أكثر الخطوط المغربية مرونة، والجزائري وهو حاد الزوايا. ويستخدم الخطاطون في المغرب العربي أقلامًا تختلف عن أقلام المشارقة من حيث بريها وقطتها التي تميل إلى الاستدارة. وفي العقود الأخيرة، شاع استخدام الخطوط العربية المشرقية للاستخدامات الفنية بشكل كبير، وأقبل الخطاطون المغاربة على تعلمها وتجويدها.
وقد ظهرت في البلدان العربية تصاميم فنية لخطوط جديدة، وتم إحياء وتطوير بعض أنواعها الجميلة المهملة، وانتشرت اللوحات الخطيّة ومعارضها. إلا أن الخط العربي لم يعد يلقى العناية والتشجيع اللازمين بما يكفي من الجهات الرسمية، وأصبح يعتمد في بقائه ونموه على الجهود الفردية لفنانيه وعشاقه ومحبيه وبعض المدارس والمراكز التعليمية الفقيرة.
والخط العربي يعتمد فنيًا وجماليًا على قواعد خاصة تنطلق من التناسب بين الخط والنقطة والدائرة، وتُستخدم في أدائه فنيًا العناصر نفسها التي نراها في الفنون التشكيلية الأخرى، كالخط والكتلة، ليس بمعناها المتحرك ماديًا فحسب بل وبمعناها الجمالي الذي ينتج حركة ذاتية تجعل الخط يتهادى في رونق جماليٍ مستقلٍ عن مضامينه ومرتبطٍ معها في آن واحد.
ومن خلال نمطيْه الأساسيين المنحني الطياش والهندسي اللذين ينفرد كل منهما بجماليات خاصة، مع الزخارف المرافقة لهما، يستطيع الفنان إبداع نوع من الإيقاع نتيجة التضاد بين الأجزاء والألوان، وما يحققه ذلك من إحساس بصري بالنعومة والخشونة والتكامل الفني الناتج عن التوزيع الإيقاعي، مع تحقيق الوحدة في العمل الفني ككل. ومن خصائصه أيضًا مخالفة الطبيعة، والتجريد والاستطراد، ممّا يمنح الفنان الحرية اللازمة للتشكيل. وهذا ما ساعد الفنانين العرب والمسلمين على استخدامه في تشكيل تحفهم على الخامات المتنوعة كالمعادن والخزف والخشب والرخام والجص والزجاج والنسيج والورق بأنواعه، بالإضافة إلى الروائع المعمارية، فكان الخط العربي قاسمًا مشتركًا لكل الفنون العربية الإسلامية التي أعارها طابَعهُ الجمالي المنطلق من التناسب بين الخط والنقطة والدائرة.
صفحة من مخطوطة من القرآن الكريم مكتوبة بالخط الكوفي عام 287هـ ، 900م. وتعتبر نسخة فريدة لأنها كُتبت على ورق أزرق وكان الشائع حينئذ الكتابة على ورق مصبوغ باللون الأصفر.
لم يتطور الخط العربي دفعة واحدة، مثله في ذلك مثل اللغة والكتابة وغيره من الفنون، بل نما ونضج مع الزمن. ففي بداياته، أدى دورًا وظيفيًا فقط، ولم نعرف له عند مجيء الإسلام أكثر من نوعين: أولهما البسط، وهو خط يميل إلى القساوة وتغلب عليه التزوية، استُخدم في النقوش وفي الوثائق المهمة التي كانت تكتب على الرق، وفي المصاحف بصورة خاصة؛ وثانيهما التقوير وهو أكثر ليونة واستدارة، استُخدم في المعاملات اليومية، والوثائق والمراسلات الخاصة التي تتطلب السرعة، ثم دخل الخط العربي مرحلة تطور وتطوير متسارعين وفي اتجاهين: استكمال مقوماته الوظيفية الكتابية من جهة، وتجويده والنهوض به ليقوم بدور فني جمالي من جهة ثانية. وقد بدأت النهضة الفنية للخط العربي مع بناء الكوفة ثم اتخاذها مقرًا للخلافة أيام الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
الخط الكوفي. اعتمد تطور الخط العربي في بداياته الكوفية على خط البسط بشكل أساسي، فتطور فيها تطورًا كبيرًا، ربما كان من أسبابه التقاؤه مع ما ألِفَهُ مَن حلّ بالكوفة من قبائل اليمن من تربيع في الخط المسند، والبراعة التي اشتهر بها أهل الحيرة والأنبار الذين هاجر بقيتهم إليها. وعلى الرغم من وجود نماذج سبقت إنشاء الكوفة تحمل سمات الخط الذي أُطلق عليه اسم الكوفي، فإن هذه التسمية سادت وأصبحت تُطلق على كل الخطوط التي تميل إلى التربيع والهندسة أينما كتبت، وأيًا كانت درجة تطورها أو اختلافها عن الخطوط الكوفية الأولى.
غير أن الكوفة عرفت نوعين آخرين إلى جانب الخط القاسي: نوع مخفف لين هو خط التحرير، ونوع يمكن اعتباره جمعًا بين النوعين السابقين هو خط المصاحف الذي اهتمت المصادر التاريخية بتناوله، وكان معتمدًا في كتابة المصاحف الكبرى التي تُوقف على المساجد. وكان من أبرز كُتَّابه الأوائل مالك بن دينار الوراق وخشنام البصري. أما أقدم فنان متميز في الخطوط الكوفية تذكره المصادر، فهو خالد بن أبي الهياج الذي اشتهر زمن خلافة علي بن أبي طالب، وحتى خلافة عمر بن عبدالعزيز. وقد كتب عددًا من المصاحف وكُتُبِ الأخبار والأشعار. وكان أول من خطَّ كتابة تزيينية على المساجد، فلقد خطّ على جدار القبلة في المسجد النبوي الشريف أربعًا وعشرين سورة من القرآن الكريم.
واستمر الخط الكوفي في التطور والانتشار، فأسهمت كل الحواضر العربية والإسلامية في الشرق الإسلامي ومغربه في الإضافة إليه، والارتقاء بجمالياته لقرون طويلة، فتعددت أنواعه وأشكاله التزيينية والزخرفية حتى جاوزت السبعين، منها الكوفي البسيط والمورّق والمضفَّر والمزهَّر والمربَّع والتذكاري والقيرواني والأندلسي والفاطمي والمملوكي والسلجوقي والنيسابوري، إلى آخر تلك الأنواع والتفرعات التي تتمتع بمميزات تشكيلية جمالية عالية ساعدت على تطورها القيم الجمالية الهيكلية الكامنة في الخط العربي وحروفه، بالإضافة إلى الطبيعة الفنية الزخرفية في الخط الكوفي، والتي تتيح للخطاط المبدع درجة عالية من الحرية في الابتكار والإبداع. ولم يحدّ من نموّ الخطوط الكوفية واطراد تطورها إلى جانب الخطوط اللينة إلا سيطرة العثمانيين على البلدان العربية، ونقلهم لخيرة مبدعيها إلى الآستانة، وإهمالهم للخطوط الكوفية مع تصاعد اهتمامهم بالخطوط الليِّنة، مما وضع الخطوط الكوفية في الظل لمئات من السنين.
كتابة أدعية مأثورة. نسخة نادرة ومشكولة كتبها ياقوت المستعصمي المتوفى في بغداد سنة 698هـ، 1298م، على كاغد عربي سميك أصفر بخط الثلث المتقن.
مصحف شريف. يعود إلى القرن الثامن الهجري، كُتب بخط النسخ في بيهار بالهند وتظهر بعض تجاويف الحروف في نهاية الكلمات كأنها على شكل سيوف.
مصحف شريف. كتبت الآيات بخط النَّسْخ، أما الشرح فبخط التعليق، وهي مزينة بألوان متعددة ومزخرفة برسوم نباتية وأشكال جمالية، تعود إلى القرن الثاني عشر للهجرة.
الخط الموزون. تعود أصول الخطوط الموزونة إلى خط التقوير الذي كانت بداية ارتقائه الفني في الشام بعد تعريب الدواوين في عهد الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان، واختراع نوع من الورق عرف بالقرطاس الشامي. وتُنسب النقلة الأولى في هذا الارتقاء إلى قطبة المحرِّر، وهو ـ في الأغلب ـ أول من أطلق عليه لقب محرِّر. ابتدع قطبة استخدام قلم الجليل في الكتابة على قطع الطومار فصار يُسمى قلم الطومار أيضًا، واشتق منه ثلاثة أقلام أصغر منه حدد عروضها بالنسبة إليه، ليكتب بها على قطوعٍ مختلفة من القرطاس تتفق مع أهميتها الإدارية.
وفي أوائل العصر العباسي، طوّر كل من الضحاك بن عجلان الشامي ثم إسحق بن حماد ما بدأه قطبة، فبلغ عدد الأقلام اثني عشر قلمًا، وأصبحت هناك مدرسة للإبداع الخطي انتهت إلى إبراهيم السجزي (أو الشجري) الذي استحدث قلمين أصغر من الطومار أطلق عليهما الثلثين والثلث (بالنسبة إلى الطومار)، وإلى أخيه الكاتب الشاعر يوسف لقوة الذي استخرج قلمًا من النصف الثقيل عُرف بقلم التوقيع طوّره الفضل بن سهل فيما بعد، وسماه القلم الرياسي، وهو يتفرع إلى بضعة أقلام مثل نصف الرياسي والمحقَّق والمنثور والوشي والرقاع والمكاتبات والنرجس والبياض.
أما النقلة الأهم بين نُقْلة قطبة المحرر ونُقْلة ابن مقلة، فقد تمَّت على يد الأحْول المحرر وكان تلميذًا مبدعًا لإبراهيم السجزي، قام بترتيب الأقلام الثقال بدءًا من الطومار، ثم الثلثين والسجلات، فالعهود والمؤامرات ثم الأمانات والديباج، فالمدمج والمرصّع، ثم قلم النسّاخ. وينسب إليه اختراع خفيف النصف وخفيف الثلث، والمسلسل، وغبار الحلية، وخط المؤامرات، وخط القصص والحوائجي. وقد استخدمت المصادر التاريخية كلمة خط بدءًا من بعض الأنواع التي ابتكرها بدلاً من كلمة قلم التي كانت سائدة للدلالة على تسميات لقياسات مختلفة من الأقلام تتناسب استخداماتها وقطوع الورق. وتنسب إلى قلم الطومار الذي حدّد عرضه بما يساوي أربعًا وعشرين شعرة من ذيل الحصان التركي، فكان عرض قلم الثلثين 16 شعرة والثلث 8 شعرات، وهكذا. ولم تكن أنواعًا بالمعنى المعروف ولكنهم استخرجوا منها الثقيل والخفيف، وأكسبوها من خلال ذائقتهم الفنية وتراكم جهودهم خصائص مختلفة ميّزت الخطوط الأصلية الموزونة التي برع فيها عدد من الخطاطين الأفذاذ، كان من أبرزهم طبطب المحرر رأس المدرسة المصرية، وإسحاق بن إبراهيم البربري أستاذ ابن مقلة ومؤلف تحفة الوامق أول كتاب أمكن تسجيله في الخط العربي.
الخط المنسوب. كانت الخطوط الموزونة قد وصلت إلى درجة من التطور، فأصبح لها نسب قياسية خاصة، وبلغ عدد أقلامها أربعة وعشرين قلمًا عندما ظهر الخطاطان العبقريان الوزير أبو علي محمد بن مُقْلة ثم أخوه أبوعبدالله الحسن بن مقلة اللذان نقلا الخط العربي نقلة فنية نوعية. لم تتفق المصادر التاريخية حول من كان له الدور الأكبر فيها. وقد كانا على درجة عالية من الدراية والتعمق والبراعة والتجويد، فتوصل أحدهما ـ أو كلاهما ـ في بدايات القرن الرابع الهجري إلى تأليف ستة أنواع من الخطوط هي: الثلث والريحان والتوقيع والمحقَّق والبديع والرقاع. وهنْدس أحدهما مقاييسها وأبعادها، ووضع معايير لضبطها والوصول بها إلى صيغ جمالية محكمة، معتمدًا في ذلك على العلاقة بين النقطة والدائرة والخط. فجعل حرف الألف الذي حدد طوله بعدد من النقاط قطرًا لدائرة ونسب إليه الحروف جميعًا، فكانت هذه انطلاقة الخط المنسوب الذي أبدع فيه عدد من الخطاطين طوال قرن من الزمن ليصل إلى محمد بن السمسماني ومحمد بن أسد الكاتب البزاز البغدادي الذي نقل كتابًا عن ابن مقلة، وكان هذان أستاذين تتلمذ عليهما الخطاط البغدادي المبدع أبو الحسن علي بن هلال، ابن البواب.
درس ابن البواب خطوط ابن مقلة دراسةً معمقة مدققة استطاع بعدها أن يطور أسلوبه والقواعد التي وضعها للخط المنسوب منتقلاً به إلى مرحلة أكثر رقيًا وجمالاً عبر اصطفائه لأساليب تجمعها خصائص جمالية مشتركة؛ نقّحها وحوّلها إلى طرق سار عليها فن الخط العربي قرونًا ثلاثة تالية، لتنتهي إلى زينب بنت أحمد الإبري البغدادي الملقبة بشُهدة، التي يقال: إن ياقوت المستعصمي تتلمذ عليها، ثم الموسيقي الشهير الخطاط صفي الدين عبدالمؤمن الأرموي أستاذ أبي المجد جمال الدين ياقوت بن عبد الله المستعصمي.
دقق ياقوت المستعصمي خطوط ابن مقلة، وخطوط ابن البواب بشكل خاص، فوجد أن القواعد التي أوصلا الخط المنسوب إليها متينة ومتماسكة من حيث مقاييسها وأبعادها ومعاييرها الجمالية الهيكلية، ولكنها تحتاج إلى أسلوب أرقى في الأداء يضيف إلى جمال هيكلها ونسبها جمالاً في تفاصيل حروفها وتناغم أجزائها. فركز جهوده في هذا الاتجاه، وتوصل إلى اختراع طريقة غير مسبوقة في بري القلم؛ فجعل شحمه أقل رهافة، وزاد من تحريف قَطّته مما شكل نقلة جمالية كبرى في تجويد الأقلام الستة المنسوبة جميعًا، سرعان ما أعطت ثمارها فانتشرت في مختلف المراكز الثقافية المنافسة لبغداد التي فقدت ثقلها في توجيه مسيرة الخط العربي بعد سقوط الدولة العباسية ووفاة ياقوت.
كان خط النسخ قد شهد تطورًا كبيرًا في الشام منذ أواخر القرن الخامس الهجري، وحظي بنصيب وافر من التجويد مع خط الطومار ومشتقاته. ونافست مصر العراق في الاهتمام بالخط العربي منذ العصر الفاطمي؛ فطورت أنواعًا جديدة من الكوفي، وواكبت مسيرة الخط المنسوب فيها مسيرته في العراق، وسابقتها في تجويده، وتطور تدريسه فيها حتى أصبح له معلمون متخصصون متفرغون لتعليمه، يعملون بناء على أسس محددة يمكن أن نرى مثالاً لها في كتاب العناية الربانية في الطريقة الشعبانية لزين الدين شعبان بن محمد الآثاري. وقد أدى هذا إلى تطور كبير في خطي الثلث والثلثين. وفي الوقت نفسه، ظهر وتطور في فارس خط التعليق بعد أن حلَّت الحروف العربية محل الحروف الفهلوية في كتابة اللغة الفارسية. وربما كان هذا الخط تطورًا عن خطي التوقيع والرقاع تعود بداياته الأولى إلى أوائل القرن الرابع الهجري. وقد اكتسب خصائصه المعروفة في القرن السابع الهجري، ليقوم خطاط مبدع في القرن التاسع الهجري هو مير علي التبريزي بابتداع وتجويد خط متطور عنه سمي نسخ التعليق أو نستعليق، يمتاز بالرقة والرشاقة والتناغم الجميل بين الرقة والغلظ في كتابة حروفه ومدّاته، ووضع له نسبًا خاصة. وقد اشتهر باسما
الخط الفارسي
المدرسة العثمانية. يمكن القول إن تطور خط النسخ في الشام، والثلث والثلثين في مصر شكّلا منهلاً نهل منه الخطاطون الأتراك وأساسًا اعتمدوا عليه ليحدثوا نقلة مهمة في تجويد بعض أنواع الخط المنسوب. وقد أدى استقدام السلاطين لخيرة خطاطي العراق والشام ومصر، ضمن من استقدموهم من فنانين وصنّاع إلى الآستانة، دورًا كبيرًا في النهضة الخطية التي شهدتها الدولة العثمانية. وكان الأتراك يستخدمون خط التعليق الفارسي في كتابة لغتهم التي كانت قد تحولت أيضًا إلى الحروف العربية، بالإضافة إلى الخطوط المنسوبة التي كانت لها استخدامات مختلفة. وقد برز في أواخر القرن التاسع خطاطان اتبعا طريقة عبدالله الصيرفي البغدادي كان لهما دور كبير في تطور تجويد الخط العربي. أولهما الشيخ حمدالله الأماسي الذي جمع خطوط ياقوت المحفوظة في الخزانة العثمانية، فدرسها، وانتقى من حروفها أجمل الأشكال والأساليب، لتكون هاديًا ودليلاً له في تطويره للأداء الجمالي للخطوط المنسوبة؛ وثانيهما الخطاط أحمد القره حصاري الذي برع في التراكيب والتشكيلات الخطية. وقد أدى التنافس بينهما إلى توسيع دائرة المجودين لتنتهي في أواخر القرن الحادي عشر الهجري إلى الحافظ عثمان بن علي الخطاط المجود الشهير صاحب المصاحف الذي استقرت الأقلام الستة بطريقته. ثم أتى الخطاط المبدع مصطفى راقم في أواخر القرن الثاني عشر الهجري ليضع اللمسات الأخيرة على طريقة تجويد جليّ الثلث التي لا تزال متبعة حتى الآن. وقام الخطاط سامي أفندي بتطوير الأرقام وعلامات التشكيل وإشارات الحروف المهملة حتى بلغت شكلها المعروف اليوم. وقد تسابق الخطاطون في تراكيب خط الثلث وجليّه مما أدى إلى تطور جمالي كبير فيها كان من نتيجته إجراء بعض التعديلات في مقاييس بعض الحروف بما يخدم التشكيل الخطي، وإحداث علاقات من التناغم بين غلظ القلم ورقة التشكيل وإشارات الحروف المهملة. وانتهى تجويد الثلث والنسخ والرقاع إلى فرعين على درجة عالية من الجمال يقف على رأس أولهما الخطاط قاضي العسكر مصطفى عزت، ويقف على رأس الثاني الخطاط محمد شوقي.
من ناحية أخرى، كان خط نسخ التعليق الفارسي يتطور بشكل تدريجي، عندما أتى الخطاط الشهير مير عماد الحسني في أواخر القرن العاشر الهجري فدرس هذا الخط، وارتقى به إلى درجة عالية من التناسق والجمال والرقة. وقام تلميذه درويش عبدي البخاري بنقل طريقته إلى إسطنبول، حيث أقبل الخطاطون على استخدامها في كتابة القطع الخطية، وقام محمد أسعد اليساري باشتقاق طريقة جديدة منه أقبل عليها كثير من الخطاطين، وخصوصًا جليّها الذي طوره الخطاط مصطفى عزت أفندي ابن اليساري، إلا أن خط التعليق التركي لم يرقَ إلى جماليات الفارسي، فلقد أهمل الأتراك الشكل التركيبي منه، وقللوا من مرونته ورشاقته.
وقد أضافت المدرسة العثمانية بعض الإضافات النوعية، فظهر الخط الديواني الذي تعود جذوره إلى التوقيع والرقاع والتعليق، وتطور بشكليه العادي والجلي، فوضع أصوله الخطاط محمد منيف في عهد السلطان محمد الثاني، ثم طورها ونشرها الصدر الأعظم شهلا باشا في عهد السلطان أحمد الثالث وجوّدها السلطان مصطفى خان، ثم طورها الخطاط نعيم. وبرع في هذا الخط الخطاط سامي، والحاج أحمد الكامل آخر رئيس للخطاطين في الدولة العثمانية، بالإضافة إلى ممتاز بك الذي وضع في عهد السلطان عبدالمجيد خان قاعدة لخط آخر أضافه العثمانيون، هو خط الرقعة الذي طوره الخطاط محمد عزت أفندي، وهو خط يصلح للاستخدام اليومي وليس للأعمال الفنية. وابتكر الخطاط عارف حكمت خطًا سماه السنبلي، إلا أنه لم ينتشر رغم أنه على درجة لابأس بها من الجمال. وطور الخطاطون العثمانيون تصميم الطغراء التي تعود بداياتها إلى سلاطين المماليك في مصر، واستخدمها السلاطين العثمانيون جميعًا.
كما اهتمت المدرسة العثمانية بتعليم الخط وتنشئة الخطاطين، حتى إن كثيرًا من سلاطينها ووزرائها تعلموه. وقد استفادت هذه المدرسة من التقاليد التي كانت المدرسة المصرية قد أرستها، وأصبح سائدًا نظام منح الشهادة أو الإجازة الذي كان ابن الصايغ قد وضعه. وقد مال الخطاطون، حتى المتميزون منهم، إلى محاكاة خطوط سابقيهم وتقليدها، الأمر الذي يمكن أن يكون أحد أسباب الروح المحافظة التي سادت المدرسة العثمانية بعد المجودين الأعلام. انظر: تركيا.
المدارس العربية الحديثة. ظلّت شجرة الخط في البلدان العربية مثمرة رغم الإهمال والظلال التي حجبت عنها النور بعد تركز الأضواء على الآستانة، فاستمر الخط العربي في العراق لينتقل نقلة نوعية تتميز بالقوة والجمال على يد الخطاط الكبير هاشم محمد البغدادي الذي جود جميع أنواع الخط العربي بخصوصية كانت أساسًا لمدرسة العراق الحديثة تجمع ميزات المدرسة العراقية والمدرسة المصرية والمدرسة التركية.
وفي الشام، انتهى الأمر إلى الخطاط مصطفى السباعي الذي كان هو والخطاط التركي يوسف رسا، وتلميذه ممدوح الشريف أساتذة للخطاط بدوي الديراني الذي جود جميع الخطوط بأسلوب متميز جميل، وطبع خط التعليق بطابعه الخاص كما طور طريقة جميلة من الخط الديواني، بالإضافة إلى إجادته للخط الكوفي، مما جعله رأسًا للنهضة الخطية في الشام. أما في مصر، فقد استمر الخط العربي عبر عدد كبير من الخطاطين حتى كان عهد أسرة محمد علي، حيث اتجهت الأضواء مرة أخرى إلى القاهرة، فبرز الخطاط محمد مؤنس الذي أخذ الخط عن والده، وبرع فيه. وكان صاحب الفضل الأول في النهضة الخطية الحديثة في مصر. وقد درّس عددًا كبيرًا من الخطاطين، ووضع كتاب الميزان المألوف في وضع الكلمات والحروف.
ثم كان هناك عدد من الخطاطين الأفذاذ أمثال محمد جعفر ومصطفى الحريري ومحمد الجمل وعدد كبير من الأساتذة الذين درّسوا في مدرسة تحسين الخطوط الملكية التي أنشأها السلطان فؤاد بعد الانقلاب الكمالي الذي عصف بالحروف العربية في تركيا. وكان من أبرزهم الخطاط التركي عبدالعزيز الرفاعي، والخطاط مصطفى غزلان الذي طور الخط الديواني تطويرًا جماليًا كبيرًا، والأستاذ يوسف أحمد الذي أحيا الخط الكوفي من جديد وقام بتدريسه ونشره، والخطاط محمد حسني الدمشقي الذي برع كثيرًا في التراكيب الخطية التي ابتدع فيها أسلوبًا خاصًا اتبُع من بعده. ويضاف إلى هؤلاء عدد كبير من الخطاطين الأعلام أمثال محمد إبراهيم الذي افتتح في الإسكندرية مدرسة خاصة لتعليم الخط، وأحيا بعض أنواع الخط الكوفي، والأستاذ سيد إبراهيم الذي كان من أوائل المدرسين في مدرسة تحسين الخطوط الملكية وأستاذًا لعدد كبير من الخطاطين والأستاذ محمد عبدالقادر، كبير مفتشي مدارس تحسين الخطوط المنتشرة اليوم في أنحاء مصر.
وفي المغرب العربي، حافظ الخط العربي على بعض سمات الخطوط الأولى. وظهرت أولى أساليبه في القيروان كاشتقاق يحمل سمات جمالية خاصة عالية من خط المصاحف الكوفي، عُرف بالخط القيرواني، ثم تطور عنه خط نُسب إلى المهديّة. وتطور في الأندلس نوعان أساسيان، أحدهما تكثر فيه الزوايا سُميّ بالكوفي الأندلسي؛ والآخر تكثر فيه الانحناءات والاستدارات سُمي بالقرطبي أو الأندلسي، استخدم في نسخ المصاحف والكتب وكان لتعليمه تقاليد خاصة في الأندلس والمغرب. وقد ساد هذا النوع في المغرب العربي كله حتى أواخر حكم الموحدين. ثم ظهر الخط الفاسي ثم السوداني أو التمبكتي (نسبة إلى تمبكتو في مالي)، ويمتاز بكبره وغلظه، والتونسي الذي يعد أكثر الخطوط المغربية مرونة، والجزائري وهو حاد الزوايا. ويستخدم الخطاطون في المغرب العربي أقلامًا تختلف عن أقلام المشارقة من حيث بريها وقطتها التي تميل إلى الاستدارة. وفي العقود الأخيرة، شاع استخدام الخطوط العربية المشرقية للاستخدامات الفنية بشكل كبير، وأقبل الخطاطون المغاربة على تعلمها وتجويدها.
وقد ظهرت في البلدان العربية تصاميم فنية لخطوط جديدة، وتم إحياء وتطوير بعض أنواعها الجميلة المهملة، وانتشرت اللوحات الخطيّة ومعارضها. إلا أن الخط العربي لم يعد يلقى العناية والتشجيع اللازمين بما يكفي من الجهات الرسمية، وأصبح يعتمد في بقائه ونموه على الجهود الفردية لفنانيه وعشاقه ومحبيه وبعض المدارس والمراكز التعليمية الفقيرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق